قليل من الإنصاف يا أستاذ عبد القدوس
تذكرت وأنا اقرأ الكلمة التي كتبها الأستاذ محمد عبد القدوس ابن الكاتب المصري الكبير الأستاذ إحسان عبد القدوس في جريدة الشعب المصرية عن مشاهداته في الحج الماضي ودعوته لأهل هذه المملكة بالحرص على التوحيد.. تذكرت المثل القائل أنه " يبيع الماء في حارة السقائين، فالكل يعرف أنه لا يوجد بلد في الدنيا أحرص من المملكة ورجالها بدءاً من جلالة الملك المعظم حتى أصغر مواطن على التوحيد والحفاظ على شعائره فالطالب في بلادنا ينشأ على التوحيد الخالص منذ ميلاده لأنه يولد على أرض خلت تماما من كل مظاهر الشرك بالله أو دعوة غيره فليس في بلادنا نبي ولا ولي يقدس أو يدعي من دون الله ليته دعي إلي ذلك في المواضع التي يعرفها ونعرفها نحن مثل هذه الدعوة..
بعد ذلك إنحرف الأستاذ محمد عبد القدوس ليدعي أن الذي أشرف على رحلته دون أن يراه ولعله يقصد المسئول في مؤسسة الطوافة التي تولت تنظيم رحلة إنتقالاته في المشاعر ليقول أنه كان عقبة في سبيل قيامه بسنن الحج في المبيت بمني يوم الثامن والمبيت بمزدلفة بعد وقفة عرفات ولولا أنه انفصل عنه لضاعت منه هذه السنة ويطالب الحكومة السعودية " بتشديد الرقابة عليهم والاهتمام بالقيام بواجبهم الديني أولا قبل واجبهم الإداري فعدم إرشاد الحجاج إلي مناسكهم يضيع الكثير من فوائد الحج ويدخل على العمل الجليل بدعاً ما انزل الله بها من سلطان، على حد قوله..
ولا ندري ما هو المانع مع ترك سنة اختلف عليها فقهاء الإسلام منذ أربعة عشر قرنا وإدخال بدع ما أنزل الله بها من سلطان على مناسك الحج إذ ليس في أداء مناسك الحج أية بدع ولكنه مجرد اختلاف في الحج وطريقة أدائه بين مختلف المذاهب الفقهية جاء نتيجة لتخطيط نبي الإسلام - صلي الله عليه وسلم - لتيسير أداء هذه الفريضة على المسلمين وكأنه - صلي الله عليه سلم - كان ينظر بظهر الغيب إلي تكاثر الحجاج ومضاعفة أعدادهم مما يتعذر معه أداء بعض السنن التي أداها هو وأصحابه يوم كان عدد الحجاج لا يتجاوز مائة ألف حاج فأصبحوا يزيدون على المليون ونصف المليون فكان منذ ذلك الوقت السحيق يقول لكل سائل عن منسك: أفعل ولا حرج وهي عبارة ترددت في كتب الفقه و السنة ثابتة عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - نأتي نحن ونضيق واسعاً ونشق على المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة ولا نتخذ من أقوال فقهاء الإسلام وسيلة للتيسير بدلا من التعسير..
نعم إن تمضية يوم الثامن وليلة التاسع في مني سنة فعلها الرسول في حجته واقتدي به صحابته يوم كان عدد الحجاج كما أسلفنا وكانت تحركاتهم سهلة وميسورة ووسائل مواصلاتهم الدواب. أما الآن وقد تنوعت وسائل المواصلات وتضخمت وتضاعف عدد الحجاج أضعافاً مضاعفة وأصبح من المتعذر تحرك هذه الأفواج من الحجاج وفيهم الشيخ العاجز والمريض والمرأة دفعة واحدة وفي وقت واحد من مكة المكرمة إلي مني وأصبح سير الحافلات التي تنقل هذا العدد الضخم من الحجاج في طرقات الحج يحتاج إلي وقت أطول وتنظيم أدق وأستطيع أن أقول أنه يستحيل تماماً سير عدد من السيارات ينقل هذا المليون والنصف من الحجاج في وقت واحد ولعله رأي بعينه ماذا يعاني رجال المرور عندنا- رغم هذا التيسير الإلهي الذي جاء على لسان الرسول. أثناء تسيير هذه السيارات وكم ساعة تستغرق هذه الرحلة لقطع 25 كيلو متر فقط فكيف لو أصررنا على تطبيق كل السنن بحذافيرها وتسيير هذا الموكب العظيم في ساعة واحدة.
ومثل هذا التيسير الإسلامي جاء في حكم المبيت بمزدلفة بعد وقفة عرفات فأفتي فقهاء الإسلام بتفسير المبيت بالبقاء في مزدلفة على قدر حط الرحال عند الإمام مالك وأفتي الإمام أحمد والإمام الشافعي وكلهم من أعلام الفقه الإسلامي بالإكتفاء بالمكث في مزدلفة لحظة بعد منتصف الليل ثم الإنتقال إلي مني لسبب بسيط وواضح هو أن مساحة مزدلفة لاتسع بحال من الأحوال لإستيعاب هذا العدد الهائل من الحجيج كي يبيت فيها جميعه أي ينام إلي الفجر كما فعل الرسول - صلي الله عليه وسلم - كسنة من سننه التي قال عنها: ائتوا منها ما استطعتم..
إن الحكومة السعودية تجند كل عام آلاف المرشدين الدينيين وغير الدينيين لإرشاد الحجاج وتوجيههم وتبصيرهم بالمذاهب الفقهية لأداء هذا المنسك الذي لم يفرض على المسلم إلا مرة واحدة في العمر علماً مسبقاً من رب العباد أنه منسك صعب يحتاج إلي صبر وجلد وقوة إيمان لا ثورة وسخط لأقل مشقة أو أبسط تعب...
ثم عرج الأستاذ محمد عبد القدوس على مؤسسات الطوافة وحكم عليها حكماً مستعجلاً من أجل إجراء واحد إتخذته هذه المؤسسات لمبررات سيأتي ذكرها وهو في حقيقة الأمر حسنة تحسب لهذه المؤسسات لا عليها.. حكم عليها بأن سلبياتها أكثر من إيجابيتها وهو لم يستطع خلال رحلته هذه التي لم تتجاوز أياماً معدودة أن يدرس أوضاع هذه المؤسسات وايجابياتها وسلبياتها حتى يصدر هذا الحكم المرتجل مع ضخامة المسئولية وثقل العمل بالنسبة لمؤسسات تتعامل مع مئات الآلاف من الحجاج مختلفي المذاهب واللغات والمشارب والعادات والأخلاق والعمار والأجناس وأخيراً العقليات وربما الجهل التام بأحكام الحج ومناسكه.
هذا الإجراء الذي استخدمته المؤسسات وهو إنشاء مكاتب إستقبال متعددة على مداخل مكة المكرمة لأجناس الحجاج لإستقبال الذين يتجهون إلي مكة المكرمة أرتالا لمعرفة المؤسسة المكلفة بخدمتهم والمكتب المخصص لذلك وموقع المسكن الذي سيسكنون فيه وبالتالي تزويدهم بمرشد خاص لإيصالهم إلي مسكنهم دون مشقة أو عناء بدلاً من التسكع في شوارع مكة المكرمة عدة ساعات للبحث عن كل ذلك وما ينشأ عن ذلك من مضيفات للحجاج وخاصة عندما يكون سائق الحافلة من غير أهل البلاد فمن المعروف أن شركات نقل الحجاج تستعين في موسم الحج بسائقين من خارج المملكة لكثرة ما تضطر إليه من سيارات لإستعمالها في نقل الحجاج مما لا تحتاج إليه طيلة العام فيقضي الحجاج ساعات طويلة في البحث بدلاً من نصف ساعة في الوقوف في مناطق الاستقبال للتوجيه السليم..
هذه الحسنة اعتبرها الأستاذ عبد القدوس سيئة وأدعي أنه يستغرق ساعات طويلة وهو كلام ملقي على عواهنة فليست هناك ساعات ولكنها دقائق ولكنة التهويل وربما عناؤه في الرحلة بدءاً من مطار القاهرة ومروراً بمطار جدة وإنتهاء بالوصول إلي مكة المكرمة وهو عناء طبيعي في مثل هذا الظرف جعله يستطول ويستهول الإجراء وينعته بالسلبية مع وضوح ايجابياته.
وبعد فإن من يتصدى لنقد أي عمل يجب أن يكون ملماً بكل جوانبه ويستقصي ايجابياته مع سلبياته- إذا كان يريد الإنصاف – لا أن يمسك بالسلبيات من وجهة نظره قبل أن يتعمق في الأسباب أما النظرة العجلي والمرور العابر فلم يكونا فقط مبرراً للحكم على الأشياء وتوجيه اللوم إلي الآخرين.
أما الحقيقة الماثلة للعيان فإن إنشاء مؤسسات الطوافة عمل إيجابي إتخذته الدولة لصالح الحجاج وتنظيم خدمتهم ورعايتهم لها إيجابيات كثرة لا يعرفها إلا من حج قبلها وحج في زمنها وبالتالي من سبر غور أعمالها والدولة من وراء كل سلبية تظهر في الأداء لتصحيح المسار بالقضاء على السلبيات وتحقيق خدمة أفضل لوفود بيت الله الحرام تلك هي السياسة التي انتهجتها المملكة منذ عهد المغفور له الملك عبد العزيز مؤسس هذه المملكة ثم أبناؤه الملوك رحم الله من لقي منهم ربه وحفظ الله الباقين منهم ووفقهم لكل خير وأعان هذه البلاد على أمثال الأستاذ عبد القدوس من الذين يتعجلون اللوم قبل أن يدركوا ماذا تبذل هذه البلاد حكومة وشعباً من أجل رعاية ضيوف الرحمن وتحقيق خدمات أفضل لهم بما ألهج ألسنة الآلاف من الحجاج بالثناء والشكر غير ما تلقته وزارة الحج والمؤسسات من عاطر الثناء والتقدير على ما شاهدوه أثناء حجهم وما لمسوه من رعاية وخدمة في صور برقيات وجوابات بالإضافة إلي ما فاضت به أحاديث كبار الشخصيات والبعثات الرسمية أثناء مقابلاتهم للمسئولين في المملكة.. هذه هي الحقيقة والله المستعان على ما يصفون.
معلومات أضافية
- العــدد: 115
- الزاوية: كل يوم إثنين
- تاريخ النشر:
- الصحيفة: الندوة
اترك التعليق
الحقول التي تحمل علامة * مطلوبة.