حول فكرة إنشاء .. مساكن للحجاج
كتب الشيخ عبد الله بن متبع في الزميلة راية الإسلام مقالين يرد فيهما على من عارض فكرة قيام أحدى الحكومات العربية بإنشاء مساكن لحجاجها في مكة.. كتب يفند رأى المعارضين بحجج لا أراها واردة وبعيدة عن الموضوع ومن ثمة فإنى أود أن أناقشها هنا واحدة واحدة.
1- يقول الكاتب الفاضل «فلا غرابة أن نجد الشوارع غير العمومية وقت موسم الحج مزدحمة بالسرر السعفية الملونة بطبقة سميكة من الأوساخ يعلوها الحجاج وهم يقضون سحابة يومهم. إلى أن يقول «ولا تظن أن جواب أحدهم سيختلف عن جواب الآخر حينما تسأله: لماذا لا تقضى يومك في الدار المخصصة لسكناك؟! وسيجيبك: إن الدار مظلمة ومنتنة ومحفوظة من الهواء ومليئة بالسكن الثقيل والأوساخ والقمائم والرطوبات» .
هذا ما قالع الكاتب الفاضل عن بيوت مكة فهل صحيح أن بيوت مكة كلها هكذا؟
وهل عرف لماذا يستوطن بعض الحجاج الشوارع؟! وهل تأكد أن هؤلاء الحجاج من سكان الشوارع دفعوا أجور سكن لأحد أو دفعوا على الأقل أجور سكن مجزية؟!
ليس من شك أن بيوت مكة ليست كلها هكذا. وأن لكل حجرة أجرة كما يقولون ومن أراد في مكة السكن المريح النظيف الصحي فهو موجود ولكن بالأجر المعقول الذي لا يزيد عن أجر أبسط سكن مماثل له في البلاد العربية الأخرى.
يذهب الواحد منا إلى أي بلد عربي آخر وفي الأيام العادية فلا يمكنه أن يسكن في مسكن صحي نظيف متواضع بأقل مما يعادل خمس ريالات سعودية في الليلة فإذا أراد الإقامة نحو شهرين فإنه سيدفع ما يساوى ثلاثمائة ريال فهل يدرى الكاتب الفاضل أن هذا الحاج الذي يراه يستوطن الشارع ويسكن المنعطفات كم يدفع كأجرة للسكن خلال جميع مدة الحج التي تقارب الشهرين أو تزيد بما فيها أيام منى وعرفات التي يجب أن تكلف أغلى وأغلى؟!
إنه يدفع ما يساوى عشرين ريالاً أو ثلاثين على أكبر تقدير ويأبى أن يزيد فإذا طلب منه الزيادة اتهم أهل البلاد بالاستغلال ورمى المطوف بأسوأ النعوت.
فهل يحق لمن يدفع مثل هذا الأجر أن يطالب بسكن أفضل؟!
إن هؤلاء الحجاج الذين رآهم الكاتب الفاضل يسكنون الشوارع واحد من ثلاثة:
أ- حاج يشترط دفع 20 ريالاً للسكن مدة الحج مع الماء والنور.
ب- وحجاج يشتركون في استئجار مسكن لا يسع أكثر من خمس أشخاص وعددهم عشرون فيكتفون بوضع أمتعتهم واتخاذ الشارع مناماً ومقاماً.
ج- وحاج خرج من دياره بلا زاد ولا راحلة يتكفف طيلة النهار إخوانه الحجاج ثم يأوي إلى أقرب مكان من شارع أو مسجد أو عطفة.
2- ويقول الكاتب الفاضل «إن المشروع قد يوفر على الحاج ما يدفعه من جيبه الخاص كأجرة سكن» .
فهل يتصور الكاتب أن الحكومة أية حكومة إسلامية تنشئ لحجاجها مساكن في مكة لتسكنهم فيها مجاناً؟!
إن كان هذا ظنه فليتأكد أنه خطأ فكل حكومة تنشئ مثل هذه المساكن إنما تنشئها للاستغلال والاستفادة من إيرادها كمحجر الطور تماماً – وستفرض على الحاج الأجرة المجزية التي ستفوق حتماً ما يدفعه الآن بكثير وستفرض عليه فرضاً ولا يسمح له بالحج إلا بعد دفعها في بلده.
وهو إجراء طبيعي لا تثريب عليه وإلا كنا نحن أحق بإقامة مثل هذه المساكن المجانية للحجاج لأننا نحن المستفيدين من مجيئهم.
إن بعض الحكومات تضع العراقيل في سبيل خروج الحجاج من بلادها وبعضها تضيق عليهم في تحديد النفقات التي يخرجون بها حرصاً على الثروة المحلية من الخروج.
وفكرة إنشاء مساكن لحجاج كل دولة إسلامية هنا حلقة من سلسلة الإجراءات التي تتخذها الحكومات لحصر ثرواتها. داخل بلادها سوف تتبعها حلقة تأمين إعاشة الحاج في مكة وستصل بواخر الحجاج تحمل مع حجاجها كل ما يحتاجونه من أطعمة ومأكولات فإذا استتب هذا الأمر قالت كل حكومة لحجاجها: إننا نحملكم إلى مكة ونسكنكم فيها ونقدم لكم الطعام والشراب والعلاج ثم نعيدكم إلى بلادكم. فماذا تريدون بالنقود التي تأخذونها معكم؟! هل تريدونها للهدايا والكماليات؟! لا.. لا.. إن بلادكم أولى بهذه الأموال التي تبددونها وهي أحوج ما تكون إليها.. إذن لا حاجة لأن يحمل أحدكم معه نقوداً وإذا احتجتم إلى شيء ضروري فإن إدارة المساكن ستقدمه لكم على الحساب إذا عدتم إلى بلادكم تدفعونه هنا.
فلماذا نطالب بأن نكون بدعاً بين الدول في إهمال اقتصادنا!
3- ويقول الكاتب الفاضل «فمن المعقول أن الحكومات الإسلامية لن تنقل جزءاً من أراضى بلادها لتقيم عليها المساكن للحجاج ولكنها ستشترى الأراضي في مكة بما يطلبه لها أصحابها كثمن أقل أو أكثر وفي هذا تحريك للسوق العقارية».
فهل تأكد الكاتب الفاضل أن أية حكومة إسلامية تفكر في إنشاء مساكن لحجاجها ستعمد إلى شراء أراضى في داخل عمران مكة بأثمانها المعروفة أو أنها ستتقدم إلى الحكومة لشراء أراضى من الفضاء الواسع في أطراف مكة بثمنه الزهيد؟!
إن المرجح هو الحالة الثانية من غير شك وحينئذ تكون المسألة قضاء على السوق العقارية لا تحريكاً لها وستصبح قيمة المتر المربع من الأراضي في المناطق حول المسجد الحرام التي تساوى الآن ألفي ريال سوف لا تزيد على مائة ريال بعد أن ينتقل الحجاج إلى مدائنهم التي ستزود بشوارعها وكل لوازمها!!
4- ثم يقول الكاتب في معرض التحدث عن مزايا السماح للحكومة الإسلامية بإنشاء مساكن لحجاجها «وستعطى مكة المكرمة حكومات العالم أجمع صورة صادقة للبلاد السعودية في نهضتها وتطورها».
فإذا سمح أحدنا لأصدقائه أن يتعاونوا على تأثيث داره ويزينوها له ثم دعاهم لزيارته في هذه الدار هل يمكنهم أن يقتنعوا بتطور صديقهم هذا ونهضته وثرائه ويرون في هذه الدار صورة صادقة لجميع دوره أم يعتبروا أنفسهم أصحاب فضل في إظهار هذه الدار بهذا المظهر ويقتنعوا في قرارة أنفسهم أن بقية الدور خراب ويباب طالما أن داره الأولى تطورت على أيديهم؟!
5- ثم يقول الكاتب «فهل من محبتنا أخواننا المسلمين أن نرضى بالوضع الراهن ونتركهم فريسة المطوفين يتصرفون بهم كما يتصرف الراعي بغنمه ويتحكمون في جيوبهم حسبما تدعوهم ضمائرهم المادية الجامدة».
والذي يبدو من هذه العبارة أن الكاتب يجهل حقيقة أوضاع المطوفين بالنسبة للحجاج فلو عرف أن هذه الأوضاع قد انقلبت وأن الحاج هو الذي أصبح يتحكم في المطوف نتيجة لهذا التناحر والتنافس والتهافت الذي نشب بين المطوفين على اجتلاب الحجاج. وأبسط دليل على ذلك ما سبق أن قلته في صدر هذا الكلام من أن الحاج أصبح يشترط على المطوف عدم دفع أكثر من 20 ريالاً للسكن طوال مدة الحج قبل أن يوافق على النزول باسمه فإذا رضى المطوف يسأل عنه وإن لم يفعل تركه إلى مطوف أخر يرضى بهذا الأجر.
إن المطوفين في رأيي الآن مساكين. مساكين.. يستحقون الرثاء لا النقمة والتحامل.. ولكنهم يستاهلون هذه السمعة السيئة فهم السبب وهم مصرون على الاستمرار في تدهور الأوضاع وعدم قبول أفكار الإصلاح ويختم الكاتب مقاله بهذه العبارة (هل ضر أمريكا أو مس كرامتها وجود مجلس الأمن ومقر هيئة الأمم المتحدة في بلادها وشتان بين المثلين).
أجل.. شتان بين المثلين فلماذا الاستشهاد؟!
فهل سمعنا أن دولة من الأعضاء في مجلس الأمن أو هيئة الأمم جاءت إلى أمريكا فأقامت لها مسكناً واحداً لرعاياها لا خمسة آلاف مسكن؟!
أين وجه الشبه بين قيام مجلس الأمن وهيئة الأمم وجامعة الدول العربية وأى مؤتمر يعقد في أية دولة وبين أن تأتى كل هذه الدول فتنشئ لها مدناً خاصة داخل دولة أخرى؟!
ثم هل سمع الكاتب بالقيود التي فرضتها أمريكا على تحركات خروشوف وكاسترو داخل نيويورك أثناء حضورهم الجمعية العمومية؟!
وبعد
فإن الحل الصحيح لمشاكل الحجاج من كافة نواحيها ينبغي أن ينبع من الداخل وأن يراعى فيه مصلحة الإسلام العليا ثم مصلحة هذا البلد واقتصاده الذي لعله من بعض الحكم المقصودة من فريضة الحج.
أما مسألة المساكن بالذات فإن الحل الوحيد لها وهو بسيط جداً هو تحديد أجرة السكن على أساس الدرجات كما هو معمول به في كل بلد سياحي وإعطاء ملاك العقار وأصحاب رءوس الأموال فرصة ثلاث سنوات لإصلاح مساكن الحجاج على ضوء الأجور الجديدة لها فإن لم يفعلوا خلالها ما طلب منهم قامت الحكومة بإنشاء هذه المساكن في أطراف مكة وهيأت لها المواصلات واستفادت هي من إيراداتها وضمنت راحة وفود بيت الله.
أما أن نقول للحكومات الإسلامية تفضلي وأقيمي لحجاجك مساكن في مكة فإنه ليس ضرراً مادياً فحسب.. ولكنه إجراء لا يتفق وسيادة الدولة ولا مصلحة الشعب ولا كرامة البلاد.
معلومات أضافية
- العــدد: 506
- الزاوية: يوميات الندوة
- تاريخ النشر: 3/4/1380ﻫ
- الصحيفة: الندوة
اترك التعليق
الحقول التي تحمل علامة * مطلوبة.